U3F1ZWV6ZTYzMTQyNzY5OTk0NjhfRnJlZTM5ODM1OTE5MzIwMDk=

خطبه جمعه مكتوبه بعنوان تقدير الرزق والأجل

 خطبة الجمعة بعنوان ( تقدير الرزق والأجل)

تقدير الرزق والاجل


الخطبه الاولى


الحمد لله ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾[الأنعام: 2 - 3]، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ﴿ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 3].

وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.

أمَّا بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ فاتقوه حق التقوى، وأصلحوا سركم تصلح علانيتكم، واهتموا بآخرتكم يكفكم الله أمر دنياكم.

أيها الإخوة المؤمنون: خلق الله تعالى الخلق، وأجرى فيهم أمره، وقضى فيهم بحكمه، وسيرهم على مقتضى حكمته ورحمته، وأرسل إلى المكلفين منهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وهداهم صراطه المستقيم. فمنهم من قبل هدى الله تعالى وشرُف بعبوديته؛ فكان له الشرف الأسنى في الدنيا والآخرة. ومنهم من رفض شريعة الله تعالى استِكبارًا وعنادًا؛ فما أوبق إلا نفسه، ولن يضر الله تعالى شيئًا.

وتدبير الله تعالى للمخلوقات هو أمر من الله تعالى على وَفْق حكمته، وهو رحمة منه سبحانه بعباده؛ إذ لو وكل تدبير شؤون الخلق إليهم لضاعوا وأضاعوا، وهلكوا وأهلكوا ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 22 - 23].

أرأيتم لو أن أرزاق الناس وآجالهم بيد بشر منهم، فكم يحصل في الأرض من الظلم والبغي والفساد؟! ما ترك الله تعالى ذلك للخلق، ولو تُرك إليهم إذًا لظلم بعضهم بعضًا، ونسي بعضهم بعضًا، وغفل بعضهم عن بعض، فأرزاق الناس وآجالهم بيد من لا يظلم ولا ينسى ولا يغفل، جلَّ ثناؤه، وتقدست أسماؤه، سبحانه وبحمده.

روى الشيخان من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال: ((إن أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربع كلمات: بِرِزْقِه وَأَجَلِه وشَقِيّ أو سعيد...))[1].

وفي لفظٍ آخَرَ عن ابن مسعود رضي الله عنه: ((أن المَلك يسألُ الله عزَّ وجلَّ فيقول: يا رب، ذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء، ويكتبُ الملك، ثم يقول: يا رب، أجلُه؟ فيقضي ربك ما يشاء، ويكتبه الملك، ثم يقول: يا رب، رزقه؟ فيقضي ربك ما يشاء، فيأخذ الملك بالصحيفة في يده، فلا يُزاد في أمر ولا يُنقص))؛ رواه مسلم[2].

وفي حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وكل الله بالرحم مَلكًا فيقول: أيْ ربِّ نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أرد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب ذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد؟ فما الرزق، فما الأجل؟ فيُكتب كذلك في بطن أُمِّه))[3].

فقضية الآجال والأرزاق محسومة، لا يزاد فيها، ولا ينقص منها، ولن يموت حيٌّ حتى يستكمل ما له من رزقٍ، وما له من عُمُرٍ.

وبناء على تدبير الحكيم الخبير لخلقه، وقسمته لأرزاقهم، وضربه لآجالهم؛ فإن الخلق متفاوِتُون في الرزق وفي الأجل وفي العمل؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الناس أربعة، والأعمال ستة: موجِبتان، ومثل بمثل، وحسنة بعشر أمثالها، وحسنة بسبع مئة ضعف، والناس موسَّعٌ عليه في الدنيا والآخرة، وموسَّعٌ عليه في الدنيا مقتورٌ عليه في الآخرة، ومقتورٌ عليه في الدنيا موسَّع عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا والآخرة، وشقي في الدنيا وشقي في الآخرة))؛ رواه أحمد وصححه ابن حبان من حديث خريم بن فاتك الأسدي رضي الله عنه[4].

إن العبدَ إذا أيقن بأن الأجل محدد، وأن الرزق مقدر، واطمأن قلبه بذلك؛ فإنه لن يجزع من فقر أصابه، أو جائحة أتلفت ماله، ولن يشغل نفسه بالدنيا عن عمل الآخرة؛ لأنه يعلم أنه مهما سعى واجتهد وأجهد نفسه فلن يكتسب إلا ما كُتب له. والمؤمن الحق الذي يفهم قضية الرزق فهمًا صحيحًا لن تستشرف نفسه ما في أيدي الناس، ولن تتطلع عينه على ما في خزائنهم، ولن تمتد يده إلى ما حرم الله تعالى عليه مهما كلف الأمر؛ لعلمه أن الذي خلقه سيرزقه، ولن يبث شكايته للناس؛ لعلمه أنهم لا يرزقون أنفسهم فضلاً عن أن يرزقوا غيرهم، ومن أخلَّ بذلك فهو ضعيف الإيمان، ولا سيما إذا كان يقرأ ويفهم قول الله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6].

لقد حذَّرنا النبي صلى الله عليه وسلم من أن تتعلق قلوبنا بتحصيل أرزاقنا؛ فننسى الله تعالى والدار الآخرة، ونُشْغَل عن العمل الصالح بالجمع والتحصيل، والعد والتنمية، ولربما شحت نفوسنا عن أداء حق الله تعالى في أموالنا، أو امتدت أيدينا إلى ما لا يحل لنا؛ فنكون كالذي يأكل ولا يشبع، ويجمع ولا ينتفع! نعوذ بالله من نفوس لا تشبع، ومن قلوب لا تخشع.

وما كان هذا التحذيرُ منه عليه الصلاة والسلام إلا لأن الإنسان بطبعه همَّام جمَّاع، يُهمه رزقه، ويحب جمع ما فضل عن حاجته، قال عليه الصلاة والسلام: ((أجملوا في طلب الدنيا فإن كلاًّ ميسر لما كتب له منها))؛ رواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه[5].

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبدٌ ليموت حتى يبلغ آخر رزقٍ هوَ له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال وترك الحرام))؛ صححه ابن حبان والحاكم[6].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس مِن عملٍ يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، لا يستبطئن أحدٌ منكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى في رُوعي أن أحدًا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس، وأجملوا في الطلب فإن استبطأ أحدٌ منكم رزقَه فلا يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله لا يُنال فضله بمعصيته))؛ رواه الحاكم[7].

ما هو واقع المسلمين في هذا العصر من هذه النصوص المحكمة؟ وما مدى عملهم بها؟!

إن بينهم وبينها لمفازة واسعة، وبونًا شاسعًا، إلا من رحم الله تعالى وقليل ما هم.

إن همَّ الرزق قد أكل قلوبهم، وسيطر على عقولهم، وعطلوا من أجله ما كُلفوا به، وهم قد كُفوه. لقد اعتادوا على مستوى من العيش فيه من السرف ما فيه، في مآكلهم ومشاربهم ومراكبهم وملابسهم ومساكنهم، وكثير من متطلباتهم لا تصل إلى مستوى الحاجات فضلاً عن الضرورات، وأكثرها من التحسينات والكماليات، وما هو دونها مما يصل بصاحبه إلى حد الإسرافِ المذموم، وأضحى الواحد منهم يشكو من قلةِ دخله ولو كان كثيرًا، ومن كثرة مصروفاته ولو كان أكثرها ليس محتاجًا إليه.

وفي الناس من الهلع والجزع ما فيهم؛ نتيجةً لتردِّي أحوال الاقتصاد العالمي، وكلَّما سمِعُوا خبرًا عن مشكلةٍ اقتصادية، أو خسارة أسهم أو شركات كادت قلوبهم تنخلع، وعقولهم تطير خوفًا من امتداد ضرر ذلك ووصولِهِ إليهم، ولو أنَّ إيمانهم بأن الرزق من عند الله تعالى كان قويًّا، وأنَّ الوجودَ خاضع لأمره وقضائه، وسائرٌ على وفق سننه وحكمته لما أهمتهم قضية الرزق أصلاً، ولما شُغِلوا بالدنيا عن الآخرة.

وكما قيل في الرزق يُقال في الأجل، ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].

ولما أصاب المسلمين ما أصابهم في أُحُدٍ من المصيبة والقتل، وأظهر المنافقون مقولاتهم المرجفة وقالوا: ﴿ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ [آل عمران: 154]، كان الجواب: ﴿ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ﴾ [آل عمران: 154].

ولما فرض الله تعالى الجهاد على المؤمنين وقال من قال منهم: ﴿ لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ [النساء: 77]، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 77-78].

وروى التِّرْمِذي وصححه من حديث أبي عزة يسار بن عبدٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قضى الله لعبدٍ أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة)) أو قال: ((جعل له بها حاجة))[8].

فلا يملك الأجل إلا الله، ولا يرزق الأحياء إلا اللهُ، ولن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها، إنها جُمَلٌ مفيدةٌ ويسيرةٌ ومفهومة، يفهمها العاميُّ من المسلمين، وقد أفنى كبارُ الفلاسفة والنُظَّار أعمارهم في فهمها وما فهموها، وقضى كثير من الأطباء القدماء حياتهم في البحث عن إكسير الحياة، وعلاجٍ للموت، فما وجدوا للحياة إكسيرًا، ولا للموت دفعًا.

وعلى الرغم ممَّا وصلت إليه البشريَّةُ من تقدم وعمران، وما تفرزه كل يوم من عجائب وبحوثٍ، ودراسات متخصصة في الطب والاقتصاد وسائر التخصصات؛ فإن بحوثهم ودراساتهم تقف عاجزة عند قضيتي الرزق والأجل؛ فذلك ليس للبشر وإنما هو من خصائص ربّ العالمين، وخالقِ الناس أجمعين. به آمنا، وعليه وتوكّلنا، ولا حول لنا ولا قوة إلا به

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 56-60]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....

الخطبة الثانية

الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله فإن التقوى من أسباب حصول الرزق، وحفظ العبد في الدنيا والآخرة ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطَّلاق:2 - 3].

أيها الإخوة في الله: لما كان المسلمون قائمين بأمر الله تعالى مشتغلين بنشر دينه، موقنين بأن الرزق لا يعجله حرصُ حريص، ولا يؤخره كراهية كاره، وأن الموت لا يتقدم إلى مجاهد عن قاعد، ولا يتأخر عن آمن إلى خائف، لما كانوا كذلك ما كان جيشٌ يقف أمامهم، ولا قوة تعرقل زحفهم؛ لأنهم يطلبون الموت كما يطلب أعداؤهم الحياة، ويبذلون أموالهم فداءً لدينهم.

قدَّم أبو بكر ماله كله، وقدَّم عمر نصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة، ومات خالدٌ ولم يترك إلا القليل من المال، رضي الله عنهم وأرضاهم، وتوفي صلاح الدين رحمه الله تعالى وما ورَّثَ إلا بضعة دراهم، وغيرهم كثير؛ كانوا ينفقون في سبيل الله تعالى ولا يخافون الفقر. أرأيتم لو أن قضية الرزق شغلتهم، وأنهم خافوا على أولادهم الفقر والعيلة أكانوا يفعلون ذلك؟!

وقتل في أُحُد سبعون من خيار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وقضى أبو أيوب الأنصاريُ رضي الله عنه في غزو القسطنطينية، ودُفن تحت أسوارها، ومات أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه غازيًا في البحر، فما وجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام ولم يتغير!

وتاريخ المسلمين زاخرٌ بنماذج كانت تطلب الموت مظانه، وتقدمُ أرواحها رخيصة في سبيل الله تعالى فلو أن أولئك لم يكن عندهم إيمان راسخ بأن الأجل مكتوب، وأن الحي لا يموت حتى يستكمل عمره؛ لاشتغلوا بالحفاظ على أنفسهم وصيانتها بدل تعريضها للمخاطر والموت.

إن من أعظم أسباب ذلة المسلمين في العصور المتأخرة هو الخللُ في فهم قضيتي الرزق والأجل، أو ضعفُ الإيمان بهاتين المسألتين المهمتين.

وقد نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لما ذكر تداعي الأمم على أمة الإسلام رغم كثرتهم؛ وأنَّ المسلمين سيُصبحون غثاءً كغثاء السيل، وستنزع مهابتهم من صدور أعدائهم، وسيُقذف في قلوبهم الوهن، فلما سئل عليه الصلاة والسلام عن الوهن قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت))[9]. وهذا ما وقع تمامًا في هذا العصر بسبب الخلل في فَهْم مسألتي الرزق والأجل؛ فحب الدنيا لا يكون إلا حبًّا في ملذاتها وشهواتها، وهذه تحتاج إلى مال، والمال يحتاج إلى جمع وتحصيل وكدح. وكلَّما كان مالُ الإنسان أكثر كان استمتاعه بالملذات أكثر، وكان حبه للدنيا أقوى وأمكن، وحينئذ يتنافس الناس على الدنيا، ويعطلون الفرائض من أجلها، ويرتكبون المحرماتِ في سبيلها.

وكراهية الموت ما كانت إلا بسبب ضعفِ الإيمان في مسألة الأجل، ومن ثم يتولى الإنسان حفظ نفسه من الموت بالابتعاد عن مظانه، ولو كان في سبيل الله تعالى وهو ميت لا محالة!!

ولما كثر هذا في أفراد الأمة المسلمة، وانتشر فيما بينهم مفهوم الحفاظ على الرزق والأجل؛ خرست الألسن عن نطق الحق خوفًا على الرزق، أو خوفًا من تقدم الأجل، وأحجمت النفوس عن ميادين الوغى، ونصرة المسلمين؛ حفاظًا على النفس من العطب، وخشية على الأولاد من اليتم والعالة.

ولما كانت أكثر جموع المسلمين على هذه الحالة من الجزع على الرزق، والخوف من الأجل كانوا غثاءً كغثاء السيل، وما عاد أعداؤهم يحسبون لهم حسابًا؛ فلا مهابة في قلوبهم منهم.

وعلى الرغم من هذه الحال المُزْرِية في مجموع الأمة، فإن أفرادًا منها ما شغلتهم مسألة الرزق والأجل، فخرجوا في سبيل الله تعالى ينصرون إخوانهم المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، قُتل منهم مَن قُتل، وعاش منهم مَن عاش، وأوذي منهم من أوذي؛ ولكنهم أحيوا شعيرة الجهاد في أمة شارفت على الهلاك، وفي فِلَسطين نماذج للبطولات والفداء، وأمهاتٌ يودعن أولادهن للقتل في سبيل الله تعالى مما يؤذن بفرج قريب بإذن الله تعالى.

ولئن كان قائد مغوار، وبطل كرار من قادة الجهاد في الشيشان[10]، قد قُتل غِيلةً قبل أيام، وحزن المؤمنون على قتله، وسألوا الله تعالى أن يتقبله في الشهداء؛ فإن نساء الأمة لن تعقم عن إنجاب أبطالٍ نجباء، ينصرون دين الله تعالى ويقيمون شرعه، ويلبون النداء؛ نصرةً لله تعالى ونجدة لإخوانهم، وطلبًا للشهادة في مظانّها.

وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته))؛ رواه ابن ماجه، وصححه ابن حبان[11].

ولئن صار الجهاد يعدُّ إرهابًا في القوانين الدولية، بل حتى الدفاع عن الأوطان والحرمات أضحى إرهابًا عند الأعداء، وقد عجز جمهور المسلمين عن إقامة هذه الشعيرة العظيمة؛ فإن طائفة من هذه الأمة ستقوم بالأمر، وستحمي بيضة الإسلام، وتتولى الدفاع عن المسلمين، وأفراد هذه الطائفة لا يزالون ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك.

فأبشروا معاشر المسلمين وأمِّلوا خيرًا، وانصروا دين الله تعالى بأنفسكم، وأموالكم، ودعائكم، واعلموا بأن العاقبة لأهل هذا الدين، وأن النصر سيكون للمؤمنين. أسأل الله تعالى أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، إنه سميع مجيب.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة